حـمـزة الـخـنـسـا - الأخـبـار
في بلد أنهكته الأزمات الاقتصادية والسياسية المتداخلة، ليس غريباً أن يصبح القرار الوطني في لبنان محلّ مساومة دائمة بين ضرورات الداخل وإملاءات الخارج.
لكن ما يبدو مستفزّاً في المرحلة الراهنة، أنّ بعض القوى السياسية تحاول شرعنة هذا الارتهان عبر ذرائع دستورية مموّهة...
من نوع ربط حرّية التعبير بـ«الانتظام العام في مجتمع ديموقراطي»، لتبرير قمع الرأي الحرّ ومنع أي نقد للتدخّلات الخارجية، تحت لافتة الحفاظ على العلاقات مع «الدول الصديقة».
هذه الدول، التي تقدّم نفسها في العلن كداعم للشعب اللبناني، تفرض في الكواليس شروطاً سياسية تتجاوز مجرّد التعاون أو المساعدة.
لتصل إلى حدّ التدخّل في مضمون الخطاب الإعلامي، وتحديد مَن يُنتقد ومَن يُحظر الاقتراب منه.
في الأيام الماضية، طالبتْ رئاسة الجمهورية وسائل الإعلام بـ«ضبط خطابها» بحجّة الحفاظ على العلاقات مع تلك الدول، رافعة شعار «الحقيقة أولاً، والانتظام العام ثانياً».
لكنّ السؤال الجوهري هنا: مَن يحدّد الحقيقة؟ ومَن يقرّر ما يضرّ وما لا يضرّ بـ«الانتظام العام»؟
مِن المثير للسخرية أنّ الدولة التي تلتزم الصمت أمام وسائل إعلام تحرّض على مكوّنات لبنانية كاملة، وتديرها جهات خارجية بتمويل سخيّ...
تجد الجرأة على كتم الأصوات التي تنتقد هذه الهيمنة الإعلامية – لا لأنها باطلة، بل لأنها لا تنسجم مع التموضع السياسي لبعض الجهات الرسمية.
الخطير في هذا المشهد، أن «الدول الصديقة» لا تكتفي بفرض أجنداتها على الحكومة اللبنانية، بل تذهب أبعد من ذلك...
عبر تمويل أحزاب سياسية ووسائل إعلامية ومنصّات رقمية لبثّ خطاب موجّه يخدم مصالحها الإقليمية, حتى وإن كان على حساب النسيج الوطني اللبناني.
وهكذا تنفصل السلطة عن الشارع، ويزداد الشرخ الداخلي، ويُهدَّد الاستقرار باسم الحفاظ على علاقات خارجية ملوّثة بالمصالح والابتزاز السياسي.
المشكلة ليست فقط في تواطؤ قوى داخلية مع الخارج، بل في قبول ذلك كأمر واقع.
عندما تُفرض على لبنان شروط تتعلّق بما يجب أن يُقال أو يُحجب في الإعلام.
وعندما تتدخّل دول في تسمية الوزراء وتحديد مَن يجب عزله، فإننا لا نكون أمام شراكة دولية، بل أمام وصاية سياسية غير معلنة، تتعارض مع أبسط مبادئ السيادة التي تُفترض لأي دولة مستقلة.
بلغة أوضح: القرار اللبناني لم يعد حرّاً بالكامل. كل صفقة دعم أو مساعدات مشروطة باتت تتضمّن بنوداً سياسية تحت الطاولة...
تتعلّق بمواقف خارجية وصراعات إقليمية لا علاقة لها بمصلحة الشعب اللبناني.
أمّا الإعلام الحرّ، فهو الضحية الأولى في هذه التسوية الكبرى، إذ يُطلب منه أن يكون أداة تطبيل لا منبراً للمساءلة.
من الواضح أن لا أحد في لبنان يرفض بناء علاقات متوازنة مع الدول الخارجية.
لكنّ هناك فارقاً شاسعاً بين علاقة قائمة على الاحترام المتبادل، وأخرى قائمة على الابتزاز السياسي والإعلامي.
وبينما تتذرّع السلطة بأهمية «الانتظام العام»، يَضيع حق الناس في المعرفة، وتُحجب الحقائق، وتُشيطن الأصوات الحرّة التي تجرؤ على المساءلة.
اليوم، المعركة لم تعد فقط مع الخارج، بل مع الداخل الذي قَبِلَ أن يضع قراره السياسي والإعلامي في جيب السفراء والمصالح العابرة للحدود.
المعركة الآن من أجل استعادة القرار اللبناني، ولمنع بيع السيادة الوطنية مقابل هبات مشروطة وتوصيات مشبوهة.
ثمّة مَن يبرر رهن السيادة بحاجة لبنان إلى الدعم المادي والسياسي من الدول الخارجية.
ولكن هنا تبرز إشكالية حقيقية تتعلّق بقدرة الدولة على الحفاظ على سيادتها الوطنية.
ففي ظلّ الدعم المالي والسياسي الذي يحصل عليه لبنان، يصبح قرار السلطة السياسية مرهوناً بالمصالح الخارجية، ما يعرّض السيادة اللبنانية للخطر.
خصوصاً عندما تفرض الدول الخارجية شروطاً سياسية على لبنان، مثل إسكات الإعلام أو تغيير الرموز والشخصيات على الشوارع العامّة، ما يشكّل انتهاكاً لمبدأ الاستقلال الوطني.
ويظهر من هذا الواقع أن لبنان، بدلاً من أن يكون في موقع اتخاذ قراراته بحرّية...
يتحوّل إلى دولة خاضعة لضغوطات خارجية قد تفرض تصوّراتها السياسية على الساحة الداخلية.
وهذا يعرّض الاستقرار الداخلي في لبنان للخطر، خصوصاً في ظل وجود قوى سياسية داخلية ترفض هذا التدخّل الخارجي.
وتتَرجم هذه الانقسامات إلى مواجهات حادة على الساحة السياسية والإعلامية، ما يزيد من الاستقطاب الداخلي.
بخاصة عندما لا يتوقّف عند التدخّل السياسي فحسب، بل يمتدّ ليشمل تمويل دول لوسائل الإعلام والأحزاب السياسية.
ما يعزّز نشر خطاب سياسي وإعلامي موالٍ لهذه الدول ومعادٍ لأطراف لبنانية أخرى.
هذا النوع من التمويل والتوجيه الإعلامي يشكّل تهديداً حقيقياً للاستقرار السياسي والاجتماعي في لبنان.
من الناحية السياسية، يمكن وصف هذا الوضع بأنه اختلال في موازين السيادة.
بينما تسعى الدولة اللبنانية إلى الاستفادة من الدعم الخارجي، فإنها، في المقابل، تدفع ثمناً باهظاً في شكل فقدان الاستقلال السياسي.
وهذا يخلق فجوة كبيرة بين القرارات السياسية التي تخدم مصالح القوى الداخلية والوطنية، وبين القرارات التي تُفرض من قبل دول خارجية.
يتفاقم هذا الوضع في ظل الصراع الداخلي حول كيفية التعامل مع الضغوط الخارجية التي تهدّد التوازن السياسي والاجتماعي في البلاد.
وبناءً على هذه الديناميكية، تظلّ السيادة والاستقلال السياسي في لبنان مهدّدين...
ما يوجب على المسؤولين اللبنانيين التفكير في كيفية حماية القرار الوطني والحدّ من تأثيرات القوى الخارجية التي قد تؤدّي إلى مزيد من الاستقطاب والصراعات الداخلية، بدل محاولة التماهي معها.
ففي دولة تعاني من أزمة ثقة عميقة بين الشعب ومؤسساته، لا يمكن بناء ديموقراطية حقيقية من دون ضمان حرّية التعبير للجميع، لا للبعض فقط.
وإذا ما استُخدم «الانتظام العام» كأداة لفرض الصمت، فهو لم يعد حماية للنظام بل أصبح تهديداً له.